الاثنين، 6 فبراير 2012



مجموعة ''نزف تحت الرمال''
للقاص حسن علي البطران
بين الحالة و السّلوك

د مسلك ميمون

        الق ق ج انطلقت في السّعودية أواخر السّبعينيات من القرن الماضي و ذلك  بمجموعة ( الخبز.. و الصّمت) لمحمد علوان سنة 1977 و التي استقبلها الواقع الثقافي بنوع من اللا مبالاة ككل الفنون الجديدة الصّادمة . و بخاصّة أن الوضع التّعليمـي و الثّقافي في المملكة، لم يكن قد وصل إلى ما هو عليه الآن . و لهذا تلا هذه المجموعة ركود ملحوظ استمر أكثر من عقد من الزّمن قبل أن تظهر بوادر المجموعـــات في هذا الجنس الأدبي تباعاً ( حادي بادي) لناصر تركي السديري سنة1991 و ( فراغات ) لعبد العزيز صالح سنة 1992 التي تعد البداية الحقيقية للق قج في السّعودية ثمّ تلتها (أثوابهم البيض ) ليوسف رجعة المحيميد سنة 1993.. و استمر العطاء إلى سنة 2009 حيث ظهرت مجموعة ( نزف من تحت الرمال) للقاص حسن علي البطران. كما ظهرت في نفس السنة مجموعة ( ظل الفراغ) لسهام العبودي و بذلك تعرف جمهور القراء على أسماء كان بعضها قد مرّ بكتابة القصة القصيرة ، و منها من باشر كتابة الق ق ج مباشرة [1]
     و تهمّنا مجموعة ( نزف من تحت الرمال ) لحسن علي البطران ، و التي هي من إصدارات نادي القصيم الأدبي ببريده، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 1430 هجرية الموافق لسنة 2009م. في حجم متوسط، و إخراج بديع، و لوحة الغلاف عبارة عن رسم للطفل ريان حسن ثلاث سنوات . أمّـــــا عدد النّصوص فأربعة و ثمانون نصاً ، شغلت مائة و سبع و ثمانين ورقة و بذلك تكون أكبر مجموعة صدرت لحد الآن.
المجموعة على اختلاف مواضيعها، يجمع نصوصها خيطان رفيعان : الحالة Cas و السلوك  Comportement. و لقد عمد القاص في معظم النصوص على البساطة ، و لكن في غير ما تبسيط مخل في الشكل و كأنه في ذلك يستجيب لقولة انشتاين: (يجب عمل كل شيء ببساطة ما أمكن، و لكن ليس بشكل متبسط . )[2]
الحالـة : حالة الشّخصية المستهدفة في النّص. و ما أكثر الحالات التي تشكل المواقف، و المبادئ، و الاختيارات.. سواء منها الاجتماعية، أو النفسية  أو السياسية... وشكّلت النّصوص في هذا الاتجاه سبعاً و ثلاثين نصاً .
أمّا السّلوك : و يراد به ما يصدر عن الشّخصية من انفعال ، و ردّات أفعال، سواء مناسبة و هادفة، أو طائشة و متهافتة. وشكّلت ستاً و أربعين نصاً.
قد يعود هذا الاهتمام اللافت بين الحالة و السّلوك.إلى طبيعة الوظيفيّ و العمليّ في حياة القاص ،لاشتغاله بقطاع التّربية و التّعليم.بالدرجة الأولى. و قد يعود إلى الوضع العام الإجتماعي في السّعودية ، و مدى تمخّض الظّواهر، و الحالات الاجتماعية، و السياسية و الاقتصادية و تأثيرها المباشر على المواطن، في مغالبته لليومي و المعيشي... ما يشكل حالات بشرية متفاعلة منسجمة و وسطها، أو متمردة ثائرة  ساخطة ، أو خاضعة خانعة راضية . كل وحسب مزاجه، و تكوينه و تربيته. الشيء الذي تتبلور عنه سلوكات مختلفة. تشكل الذّات الفاعلة، و مدى إدراكها، و وعيها، بالقيم و المبادئ، و النّظم المحليـــــــــة، و العادات و التّقاليد، و الأعراف الأهلية، و ما يحيط بكلّ ذلك من ثقافات أخرى، و ما يتسرب منها ـــ رغم الحرص و الاحتراس ـــ محدثاً شرخاً في البنى النّفسية و الاجتماعية و الثقافية... 
         نصوص المجموعة تندرج في إطار الق ق ج. و إن كان بعضها يندرج في إطار الومضة. بمعنى أنّ الق ق ج تسمح بتطور الحدث إلى أن يكتمل أو يكاد فيختم بقفلـــــــــــة résolution  تعمق الوعي، و الإحساس به. بيد أنّ الومضة، و هي أصغر وحدة سردية : تأتي بالحدث كاملا، و تشفعه بقفلـــة تربك الوعي به ، أو تعمّقه . فالفـــــــــــرق بين الجنسين التّطور من أجل الاكتمال والاختتام بقفلة . أو الاكتمال و الاختتام بقفلــــة .
كما نجد نصوصاً في المجموعة محكمة البناء والسّرد ، مستجيبة لمكونات هذا الفن الأدبي السّردي،و أخرى جاءت على درجة من الغموض والإبهام و البعض الآخر لا يمت للجنسين بصلةـ من حيث التّركيب و البناء.
فمن النصوص اللافتة نقتطف هذه العناوين كأمثلة:(رجولة، اهتمام، امتصاص،رائحة العلقم، سراب، نضوج، هوس، منظار، تبخر أمل، فضيحة لون، قفزة، و للضوء لون أسود ..)
1 ــــ ظواهــر اجتماعيـــــــة:
الظاهرة الاجتماعية أهمّ ما يشد القاص، فيوليها كبير عناية. و بالغ الاهتمام .. و في هذه المجموعة عدّة نصوص تدور حول هذا الغرض : تارة بالإشارة و التّلميح ، و تارة بالتّركيز و التوضيح، مع ضمنية نقدية. ففي نص ( رجولة) انتقاد صريح لزواج الفتـاة الصّغيرة ، برجل أكبر منهاسناً. و هي على جهل تام بكلّ ما ينتظر منها. و ما ينتظر منها أكبر من سنها و عقلها .. و الدنيا حولها زغاريد و فرحــة ( من ورائها أسراب تغني و ترقص ) و هي بين الفرحة التي لا تعرف معناها ، و الخوف و القلق من الآخر الذي يدخل عليها و ( من خلفه يحكم الباب)  تراه أمامها وحشاً كاسراً، تهابه، و تبتعد عنه:( تنزوي في زاوية غرفتها ، يدنو منها تضطرب و تتراقص أطرافها ، و تتهاطل مطراً..!و يزيد من هولها و فزعها، الباب الذي يقرع ، و هذا الذي تريده أمّ الزّوج، و تطالب به من خلف باب مخدع الزّفاف : ( أتستحق لقب خليفة أبيك ..؟؟ !!) صورة قاتمة يرسمها النّص لليلة الدّخلة.التي و لاشك ستترك أثراً سيّئاً، و عميقاً في نفسية العروسة الصّغيرة. أمّا ( الرجولة) و من خلال النّص، فقد انحصرت فيما هو إيروسي ( جنسي) شبقي يؤدي إلى الفضّ فقط. و في ذلك تلميح لما صار إليه مفهوم الرجولة، من انحصار، و ما ابتعد عنه من قيم و خصال..
فنياً: النّص تحاشى التّركيز و الإيجاز الذي هو من خصائص الق قج.و عمــــد إلى الوصف و التّوضيح .( تتأمل نقوش حنائها التي تطفو فوق أديم يديها ) أو ( هالات مضيئة تعلو سماء سمرتها ، و نهر دموع عينيها يجري و يروي عطش بستانها؛ ويزيد لمعان زجاجات براءة فرحتها ..) ص39
و في نص ( امتصاص) نصادف هذا الاختلال في الحياة الزّوجية، حين يكون الزّوج في منتهى عطائه و فحولته، و تصبح المرأة أقلّ تحفيزاً و رغبة. فتختلّ العلاقة و تفتر: ( ماؤها البارد أصبح لا يروي ظمأه ! شعرت هي بذلك ) و لكن شعورها جاء متأخراً ( بدأت تنقب في ساحة أرضها عن بئر أخرى..اكتشفت آباراً عديدة، لكن بعد فوات الأوان.) ص107
فنياً: النص اعتمد لغة التمثلات الدلالية représentation sémantique  هذه لغة تصلح للقصّة القصيرة أو القصّة . بينما بالنّسبة الق ق ج فلا بدّ من لغة تحظى بنظام ترميزي إيحائي، فهي بذلك أقرب إلى لغة الشّعر.
ثمّ هناك نص (رائحة العلقم ) الذي تلخصه عبارة ( العِرقُ دسّاس) : و جد غصناً ملقى على حافة الطريق ، أخذه و غرسه و سقاه فاخضر و أينع ( و بعد فترة أصبح و كأنّه شجرة من عشرات السنين في أصالتها و عراقتها.. !!) بل أثمرت و أصبحت ثمارها مغرية و جذابة.. و لكن ليس الأمر في الشّكل ( حينما تتذوقها تجدها مرّة و علقمية .. !) و توضح القفلة الإشكال : (بعد تصفح تاريخ هذا الغصن تبين أنّه يعود إلى بقايا نبات له علاقة بشجـر الحنظل ! ) ص 107
ثمّ نص(السّراب) حيث يلعب المال و الجاه و السّلطة دوراً قد لا يخطر على بال. حتّى في العلاقة الزّوجية (الضّيوف يتناولون العشاء في صالة الضيافة الخاصة بقصر الأفراح.. أكثرهم من الطبقة المخملية..بعد ضيافتهم تفاجأ الجميع أنّ العريس ليس هو العريس!)  مفاجأة ليس من السّهل تمريرها أو تقبلها ، لأّنّ عريساً آخر يجلس في المنصة ! ترى ماذا وقع ؟ فتخبرنا القفلة : بأنّ( الوردة المقطوفة له، ليست من اختياره..) ص115
أمّا نص(فضيحة اللّون) فيجسد الخيانة الزوجية.اعتاد الزوج أن يستشير أبناءه في كلّ شيء كطبع وسلوك ديمقراطي، يريد و يرغب أن يرسخه في طبع الأبناء .فحين اعتزم شراء سيارة (عقد اجتماعاً لاختيار لونها..تباينت الآراء و اختلفت الأذواق بين الأعضاء.. و لكن اتّفق الجميع أن يكون رأي مها هو المرجح) ولكن رأي الصّغيرة مهـا زلزل البيت، وأتى على كلّ شيء:( يكون لون السيارة كمكياج (ماما) حينما تكون مع (عمو) سلطان!) ص155
2 ــــــ ظواهر نفسيـــة :
و في نص (اهتمام) يستوقفنا هذا الاهتمام الغريب بالممتلكات الشّخصية مهما قلّت قيمتها لدى الناس: لقد فقده بعد أن كانت عنايته به فائقة ( يهتم به كثيراً؛ يتفنّن في نظافته و الاعتناء به .. يفضله كأصغر أبنائه ) فيشتط غضباً لما تأكد ألا أحد من أفراد الأسرة رآه أو يعلم عنه شيئًا.. فيزداد شوق المتلقي لمعرفة هذا الفقيد العزيز.. ترى ما يكون ؟ فتأتي القفلة:( بعد ساعات خمد بركانه !عندما وجده عند حفيده يقص به ورقً ملوناً.) ص75
 و في نص (نضوج) نقف أمام حالة متكررة في كلّ أسرة فيها بنات، يبلغن سنّ النّضج . و يفاجأن بهذا السّائل يتدفق فجأة و بغير إنذار، و لم يتعودن ذلك، و لم يخبرهن أيّ أحد، فيكون الرّعب الشّديد، و الانفعال والقلق، و التّوتر و الهلع ... ( أمي ..أمي ..سأموت، سأموت !!) فتأتي القفلة و كالعادة مفتاحاً للمنغلق ، و إضاءة للمعتم المظلم ..( ابنتي لقد أصبحت امرأة ..) ص119
و في نص (هوس) يجد القارئ نفسه أمام حالة هوس و حبّ استطلاع ، و فضول معرفة .. قد يؤدي أحيانًا إلى ما لا تحمد مغبته . و هو نص رمزي تلميحي ..(ينظر إليها و هو على الضفة، يراقبها ، عيناه تحومان حولها.. و يسأل نفسه: لماذا تظل ورقة التفاح تطفو و لا تغرق ؟  ) ورقة التفاح هنا القضية الغامضة، الإشكال الذي يستفز و يدعو إلى البحث و المعرفة، و لعلّ إدراك الحقيقة ليس بالسّهل دائماً، بل لا بدّ من مغامرة .إمّا مدروســة و محسوبة العواقب . و إمّا مغامرة انتحارية مآلها الضياع .كما هو في هذا النّص : ( يرمي بنفسه و ينسى ذكره للأبد و تبقى الورقة ..!) ص123
و في نص(و للضوء لون أسود) نلامس حالة نفسية لدى بعض النّاس ،تتمثل في الجشع و حبّ المزيد ، و طلب تحقيق المستحيل.. و النّص في ذلك ، يستند إلى الرّمز اللّغوي ( جمع ضوء الشمس منذ إشراقتها و قدمه كهدية لها ! و قالت له : هل هنالك شمس أخرى؟! ) فلم يجد أمامه من سبيل إلا أن يرمي بنفسه في النهر.عسى برودة الماء تطفئ أوار غضبه ، و مع ذلك غادر النهر ليبحث ( عن شمس لكن ليس لها ضوء ) ص159 لترضية جشـع و رغبة زوجته ، التي لا يرضيها و لا يقنعها أيّ شيء.
و أخيراً في نص (رمال متحركة) يستعيد القارئ المقولة الشّهيرة عن النّساء و طبعهـــــــن :   (يتمنعن و هن الراغبات ) و التّمنع عرفت به المرأة منذ القديم، حتّى صار من طبعها في تعاملها الخاص، كما هو في النّص بنزعة رمزية خاصّة : ( نظر إليها و هي تحرس تفاحاً يتموج احمراراً وسط صحراء جرداء . ) إذاً أعجب بها و بصدرها الناهد . سألها القرب منها ( أراد أن يشتري منها هذا التفاح ) و لكنها رفضت فغطته و قالت : ( الآن ليس للبيع فأنا أحرسه منذ أن أينعت و نضجت ..) و لكن انطفأت الشّمعة التي كانت تضيء المكان ( و سقطت و احتضنها و أمسكت يده التفاح) ص175
      أمّا النّصوص التي طغى عليها الإبهام، و الغموض فنخصّ بالذّكر: (عناق، انتصار حمامة، جموح، غذاء ولاء، مراودة، ميلاد جديد، جرح ،غرابيل..)
ومنها هذا النص الذي يحمل عنوان :جموح
'' صافحت يده يده حينما التقى به عند مدخل المدينة و قال له:
اصعد القمر كي نزرع شجرة !
صهيل الخيل ألجمه..
وما زالت البئر تأوي يوسف.. ! ''
و هناك ما يسمى بالومضة و منها : ( توهم، سرقة، الغسيل ،غيرة،عولمة،إتيكيت،صدى، طيبة، منظار،المعول،تبخر الأمل،حاجة،قفزة، كيان،صمت،اعتصام )
و منها ننتقي هذا النص تحت عنوان : منظار
'' ينظرون إليه و هو فوق النخلة يجني الرطب .
هو: أراكم صغاراً ! ''
و إلى جانب هذا ، هناك نصوص كتبت بطريقة مختلفة ، ليست بالق ق ج أو الومضة و إنما فيها من ملامح الخاطرة و الكتابة النثرية الفنية، ما يجعلها أقرب إلى مقاطع من قصائد نثرية مثلا: ( نزف، بصمة،شلل ،عاصفة، لكن..، مستقبل، ظمأ،سؤال، توحد،رائحة نفاق، تعصب،قارورة، وفاء، عباءة،ضباب، ندى الغروب، قانون، عمق حب، شيطان،غذاء ولاء، الفنجان، بصيص، قلم باهت،مأوى، ميلاد جديد، رائحة نفاق،  بائع الماء،رماد بألوان قوس قزح، رائحة اللّون، لكلّ موسم فاكهة، براءة رمال،غصن رمان، فصول، حقد، انتكاسة،انفلات، جموح، سقوط، البراشوت، انتظار، نبش في الظلام، وطن.. )
     و عموماً مجموعة '' نزف من تحت الرمال'' أضمومة من الق ق ج و من الومضات و باقة من النصوص النثرية القصيرة،  التي تعتمد وصف الحالة، أو إبراز السلوك. و لكن بطريقة فنية سواء في إطار من الق ق ج، أو الومضة، أو الخاطرة القصيرة .





 ـ  [1]
حمود تراوري، وحكيمة الحربي، وجار الله الحميد، وخالد الخضري، وأميمة الخميس، وتركي ناصر السديري، وإبراهيم محمد شحبي، ومحمد منصور الشقحاء، وشريفة الشملان، وفالح عبد العزيز الصغير، وحسن الشيخ، وسهام العبودي، والبراق الحازمي، وفهد العتيق، وأحمد محمد عزوز، وفردوس أبو القاسم، وأحمد القاضي،وصلاح القرشي، ويوسف المحيميد، وطلق المرزوقي، وفهد أحمد المصبح، وهدى بنت فهد المعجل، ومحمد النجيمي، وطاهر الزارعي، ومشعل العبدلي، وأميمة البدري، وعلي حمود المجنوني، ونورة شرواني، وتركي الرويتي، وجابر عامر عوض الشهدي، ومحمد علوان، وحسن بن علي البطران، وعبد السلام الحميد، ونورة بنت سعد الأحمري، وسعاد السعيد، وفهد الخليوي، وجبير المليحان، وهيام المفلح ، وعبد الحفيظ الشمري،

[2] ـ العلاج السلوكي للطفل / عبد الستار إبراهيم ـ عالم المعرفة ـ العدد 180 ص 153


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق