الأحد، 5 فبراير 2012

شعرية الحكي في القصص القصيرة جداًعند عبد الحميد الغرباوي


شعرية الحكي في القصص القصيرة جداً
عند عبد الحميد الغرباوي
د مسلك ميمون
     
إنّ القصة في طولها الذي قد يصل إلى صفحات ، أو في قصرها الذي هو في بضع صفحات ،أو حتى حين تصبح قصيرة جداً في بضعة أسطر فهي لا تخلو من حكي . بل الحكي هو أساسها، و منطلقها ، و سمتها، و ميزتها. و الحكي و كما هو معــــروف يشمل الحــدث أو الأحداث الموضوعاتية Thématique التي تتمحور حولها القصّة   كما يشمل السّردNarration   الذي يشكّل طريقة الحكي،  والجهاز و الإجراء الحكائي التّعبيري le procès énonciatif و من تمّ العلاقة الجدليةو  التّرابطية بين الحدث و السّرد، لخلق بنية تكاملية هي الحكي . و العملية لا تستوفي شروطها إلا بوجود سارد Narrateur   و المسرود له  Narrataire
و الحكي لم يكن إبداعاً في ذاته،سواء كان كتابياً أو شفهياً . بل كانت دائماً شاعرية الحكي هي التي تسترعي الانتباه ، و تشدّ المتلقي ـ و تثير الاهتمام بالحدث و السّرد . و هذه الخاصية الفنية، تغيب في كثير من النّصوص السّردية ،سواء على مستوى الرواية، أو القصّة، أو القصّة القصيرة ، أو القصيرة جداً، ما يجعل العملية السّردية تغـــرق في المباشرة و التّقريرية.direct Récit من تمّ جــاء الاهتمام بشعريــة الحكي كمكــون أساسي ، لإبعاد الحكي عن النّمطية ، و التّقليد، و الإنجرار التّقريري.. و تدعيــم روح الإبداع و الابتكار، و الخروج من الطّقس العــادي السّاكن، إلى طقس أرحب يتيح لعبة التّجديد ،و يمهد مسارات التّغيير و التّبلور ،و خلق العلاقات التّوليدية ، في التّراكيب و الأساليب ... بغية تحقيق البنية العميقة المطلوبة، وفق سياقية تركيبية فنية فـــــاعلة .
و كما أشرنا سالفاً أنّ الحكي : حدث و سرد . فالشّعرية ينبغي ـ لتحقيق التّكامل الفنّي ـ أن تلامسهما معاً . و ذاك ليس بالأمر السّهل، بالنسبة للقاص عموماً، بله القاص المبتدئ.لأنّ الأمر تأثير من السّارد،و تأثر من المسرود له.غير أنّ التّجربة و الممارسة ، و الدّراسة و البحث، في مجال السّرديات ...كلّ ذلك كفيل بأن يضيء المجال ..و يضمن المآل .و من ذلك جاء الاهتمام بإنتاج القاص عبد الحميد الغربــاوي و مـــدى اهتمامه بشعرية الحكي . و في هذا الإطار ،نستعرض نماذج قصصية قصيرة جداً ، منتقاة ، نحاول من خلالها ملامسة شاعرية الحكي . في قصص هذا القاص المخضرم البارع :


(1)  فـــــراغ

هكذا يحدث دائمًا...
يدخل المقهى، يأخذ له مكاناً إلى جانب أصدقاء، يطلب قهوة بلا سكر و جرائد..
يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ،ثم يضعها جانبا، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها، ثم يضعها جانباً، و الثالثة و الرّابعة..ثمّ يضعها جانباً، يرشف رشفة من قهوته ثم يسأل الأصدقاء: "ما الأخبار يا سادة؟"

من حيث الحدث: '' فراغ '' قصةُ الاعتيادي الممل ، الذي يسكن الدّماغ ، فينعكس على دورة الحياة اليومية ، فتتشابه السّاعات و الأيّام و الأسابيع ... في روتين قاتل يطفح بالتّكرار : و كأنّ كلّ ما في الجرائد من أخبار، لم يشغله ، و لم يلفت انتباهه ، فيسأل الأصدقاء ( ما الأخبار يا سادة؟) كأنّي بالسّارد يوحي بأنّ الأخبار الجديدة انتشال من الفراغ . لأنّ البطل يجد شيئاً ما يلوكه بلسانه . و يكسر دائرة الطّوق التي تحاصره .
بنية القصة : اعتمدت التكرار تعميقاً للشّعور بوطأة الفراغ ، و ما ينجم عنه من ملل : (يتصفح الجريدة الأولى من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، يتصفح الثانية من أولها إلى آخرها ثم يضعها جانباً، و الثالثة و الرّابعة..ثمّ يضعها جانباً)
القفلة لم تكن منتظرة لأنّ البطل غارق في أخبار الجرائد . و لكنّ المدهش في الأمر أنّه يريد أن يستزيد أخباراً من الأصدقاء دليلا أنّ : كلّ ما هو متيسر لا يملأ هوة الفـراغ الذي يعيشه . إلا أنّ النّص لا يكشف عن نوع الفراغ : روحـي ، عاطفي ، توقف عن العمل ، تقاعد ...و هذه في حدّ ذاتها مزية تحسب لصالح النص الإبداعي، و هي أفضل من التّحديد لأنّها تسمح للخيال أن ينطلق بدون قيد. ما يتيح مجالا خصبا للتساؤل و التأمل ... و في ذلك شاعرية الحكي، التى تستمر لدى المتلقي تنتعش من خياله و تصوره .....
******************

(2)  بلاغـــة

استدعي شخصان للحديث إلى جمع غفير، عن نعمة الكلام التي وهبها الله للإنسان...
كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقاً... تحدث الشّخص الأول و أسهب كثيراً في الكلام، و حين أنهى حديثه، ظلت القاعة صامتة، و تخلّل الصمتَ تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلة، متفرقة و باردة هنا و هناك...ذهل الشّخص الأول حين انبرى الثاني و تحدث إلى الجمع بلغة الإشارات. كانت حركات يديه و أصابعه في غاية الإتقان، تتّسم بخفة و رشاقة بالغتين... و ما أن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقا بحرارة منقطعة النظير.

   الحدث : البلاغة لغة الإيجاز و الاقتضاب ، لغة المعنى الكثير في اللّفظ القليل ، لغـة مراعاة الزّمان و المكان ، و الحال و الاستقبال ، و ما قلّ و دلّ ... فإذا خالفت هذا انخرطت في الإسهاب الممل،و الإطناب المخل ، فيضيع الفهم، و يعمّ الارتخاء و السّهو و النّوم ...و هذا ما حدث مع الشّخص الأوّل الذي أسهب ( و حين أنهى حديثه، ظلّت القاعة صامتة،و تخلّل الصّمت تصفيقات مجاملة ، مترددة، قليلــة، متفرقة و باردة هنا و هناك.. ) و هذا ما يحدث مع مطولات الخطب .
أمّا الشّخص الثّاني غيَّر أداةَ التّواصل من اللّغة إلى الإشارة و الحركة و في بضع حركات بطريقة ميمية (mimique) أو ما يعرف في المسرح:بالتمثيل الصامت ( pantomime)  استطاع أن يوصل أفكاره (... و ما أن توقفت يداه و أصابعه عن الحركة، حتى وقف الجمع مصفقاً بحرارة منقطعة النظير)
و النص يحيلنا على أسلوب التّلميح و الإشارة، بدل الإسهاب و الإطناب، و الصّراخ و العويل، فما يجدي قليله ، فلا حاجة لكثيره ...
فنيــا : و إن كان العنوان ( بـلاغة ) و لكن لغة النص جاءت عادية. بل فيها بعض الحشو مثلا (نعمة الكلام التي وهبها الله للإنسان...( أو ) كان الحفل احتفاء بالصوت البشري حقا) فنعمة الكلام من الله ، و لا داعي لذكر ذلك. كما أن البلاغة في الكلام البشري احتفاء بالصّوت و لا خلاف ، و لكن الأمر كان مقصوداً من السّارد لذم الإسهاب و إبراز مدى ثقله من جهة ، و من جهة أخرى الاحتفاء بالإيجاز و الإشارة . .لأنّ الفنّ لمح تكفي إشارته ،على حد قول البحتري ( الشعر لمح تكفي إشارته ) و الأجمل ؛ هو ما يخرج به القارئ لا ما يقـال له مباشرة . و في ذلك شاعرية الحكي .
**********************

(3) الجرابــــــان

أقبلا...كلّ واحد من الاتجاه المقابل للآخر..
و كلّ واحد يحمل جراباً...قال أحدهما:
" أظنّ أنّ القادم يتضور جوعاً..."
و أدخل يده في الجراب..
رآه الآخر، قال:" أظنّ أنّ القادم عدو يتهيأ لتصفيتي.."
وأدخل يده في الجراب...اقتربا ..
أخرج كلّ واحد يده...كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز...

هذه قصة قصيرة جداً بمعنى الكلمة . إذ توفرت فيها شروط البناء القصصي :
 تكثيف لغوي ، لم يكتب إلا ما له علاقة بالنّص ؛ شخصيتان متناقضتان الشيء الذي قوى الصّراع الدرامي.حوار داخلي (monologue )  مثل :(أظن أنّ القادم يتضور جوعا...(و (أظنّ أنّ القادم عدو يتهيأ لتصفيتي..) سرد مقتضب (أقبلا...كلّ واحد من الاتجاه المقابل للآخر..و كلّ واحد يحمل جرابا ..) قفلة (  (كانت الرصاصة أسرع من كسرة الخبز ) قد يقال هنا أنّ القفلة كانت شبه منتظرة و يوحي بها كلام الرجل الثاني و إدخال يده في جرابه . هذا صحيح و لكن القارئ لا يعلم ما سيخرج من جرابه : هل سيخرج سكينا، أم عصا ،أم مسدسا... و إن كان الشّعور أنّه يتهيأ للدفاع عن نفسه . و لكن الأحسن في القفلة هو إطلاق النار بسرعة دون أن ينتظر ما سيخرج الرجل الأول و في هذا متعة القفلة لأنّها تضعنا أمام صورتين متناقضتين:يد ممدودة بكسرة الخبز . و يد تطلق النار. و يبقى مجال القراءة مفتوحاً على مصرعيه أمام المتلقي ... و هذا هو الأجمل . و تلك من وجوه شعرية الحكي. إنّ النّص الرائع هو الذي يشارك القارئ في انجازه ، بما يتيحه السّارد من فرص التّأويل ،و التّخمين ، و التّخيل ، و التّنبؤ .....
****************

(4)  منطق الفقــر

قبل أن تبدأ الحملة، و حتى أثناءها، وفي سرية مكشوفة للعيان، طمأنهم بوعود ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حناناً مفتقداً و رغيفاً و شوكولاطة و ملابس...
نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...
فاز بمقعد في البرلمان فنسيهم...
و سريعاً عاد إليهم العوز ،و الجوع ، و العري ...
إلا أنّ سؤالا واحداً ووحيداً ظل يطنّ بدواخلهم، طنين الذباب:" متى تأتي الحملة المقبلة؟

'' منطق الفقــر '' استوقفني عنوان النّص . هل للفقر منطق ؟ و لماذا لا يكون ذلك . فكلّ ما نعرف وما لا نعرف ممنطق ، و لكن لا نراعي و لا نلاحظ .
فمنطق الفقر يعني أنّ الفقر ، لا يزول بالحلول المناسباتية أو بالحلول التّرقيعية ، أو بالوعود و المخططات العشوائية أو بالحملات الانتخاابية .... منطق الفقر يفرض الحلّ النّاجع في تقسيم ثروات البلاد ، و محاسبة الطبقات العليا و كيف أصبحت عليا ؟ و في استرجاع المال العام و صرفه في مجالاته الخاصّة . و في توفير الشّغل ، و فتح الآفاق أمام العاملين و ذوي الشّواهد العليا ، و الكفاءات المتميزة . و عدم إهمال ذوي الحاجات الخاصة ، و غير المحظوظين ، و غير المتفوقين لظروف قاهرة ... منطق الفقر يحتم النظرة الجماعية للوطن ككتلة متجانسة . و يرفض التفرقة ، و المحسوبية ، و استغلال خيرات البلاد لفائدة طبقة خاصة ، و إهمال الباقي .... ذاك مما نطقت ببعضه القصّة ، و ذاك ممّا سكتت عنه ، و بقي استنتاجاً ، من واجب القارئ أن يصل إليه .
فنيـــــا :ا النّص في هيكلته ، ينقسم إلى قسمين ، الطمأنينة و الوعود و توزيع العطايا بسخاء من طرف المرشح و كأنّه ( بابا نويل ) حتى ( نسي الكبار لفترة عوزهم، و نسي الأطفال جوعهم و عريهم...) و لكن بمجرد أن فاز و ضمن مقعده في البرلمان ، نسي منتخبيه . بل لو استطاع لسلبهم ما أعطاهم . و لهذا(سريعا عاد إليهم العوز و الجوع و العري ...) و تأتي جملة القفلة غير المنتظرة التي تطن طنين الذباب في داخل المنتخبين : (متى:تأتي الحملة المقبلة ؟ ) و الأسئلة التي تثيرها القفلة :
ـ هل إذا كانت الانتخابات ، سينتقم الناخبون من مرشحهم الذي خانهم ؟
ـ هل سيؤيدونه من جديد لأنّه أجزل لهم في العطاء قبل الفوز ؟
ـ هل سيقاطعون الانتخابات التي تفتح الباب للمرتشين ؟
و تتناسل الأسئلة . و ليس ـ في القصة القصيرة جداً ـ أحسن ، و لا أفضل من قفلة بنيت على أساس إثارة الأسئلة . فهي أفضل من قفلة تنقل معلومة و تنتهي .
يحافظ الكاتب على اللغة البسيطة ، و الجمل القصيرة ، و سرعة التنقل من صورة إلى أخرى ... مع إضافة السّخرية و التّهكم في التّعبير مثلا (وفي سرية مكشوفة للعيان ) و(ووزع عليهم مالا بسخاء، و منح أطفالهم حنانا مفتقدا و رغيفا و شوكولاطة و ملابس... ) و ( متى تأتي الحملة الانتخابية ؟)
*********************

(5)  ثـــــأر

الولد الذي يجلس اللّحظة يرسم، كان قبل ذلك بقليل يجهش باكياً..
شده الحنين إلى والدته ، والده، أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى...
يرسم الولد كوخا بمدخنة و حوله عشب،
فلا دخان يخرج من المدخنة ، و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..
و اخضرار العشب تحول إلى اصفرار...
يرسم الولد شمساً فلا تضحك..
عندليبا فلا يغرد..
يرسم الولد طائرة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء
...

'' ثأر '' نص معبر . رغم بساطته يجد له محلا و مستقراً في القلب . لا لفكرته ( الثأر ) و لكن لطريقة التعبير العفوية انطلاقاً من تفكير و نفسية و حركات طفل فقد الأمّ و الأب و الأخت في غارة غاشمة ظالمة . فبكى إلى أن أفرغ سواد الحزن الذي يملؤه . و لمّا حـنّ لأبويه و أخته، و قد صار يتيماً ، رسم كوخاً بمدخنة بلا دخان و لا أثر للحياة ،و حولـه عشب ، سرعان ما تحول لونه الأخضر إلى اصفرار و شحوب...ثم رسم شمساً لا تضحك على عكس ما في رسومات الأطفال و شمسهم الضّاحكة .ثمّ رسم عندليباً صامتاً لا يغرد . و في الأخير ( رسم الولد طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء...)
فنيــــا : وظف النّص الرّمز كعمدة و أساس :
ـ (فلا دخان يخرج من المدخنة ) رمز لتوقف الحياة في كوخ الأسرة نتيجة الغارة .
ـ ( و لا نداء يأتيه من عمق الكوخ ..) رمز لغياب الأم الأبدي .
ـ (و اخضرارالعشب تحول إلى اصفرار..) رمز لتحول الحياة النضيرة إلى جفاف و قحط .
ـ (يرسم الولد شمساً فلا تضحك) رمز لغياب السعادة التي كانت في حضن الأسرة .
ـ ( عندليباً فلا يغرد) رمز لضياع النشوة و الحبور و التغني بالبهجة و السرور .
أمّا القفلة و إن جاءت فاترة . و لكنّها تستجيب لرغبة طفل يسعى للإ نتقام من أعداء أفقدوه أسرته و ذلك بأن رسم (طائرة حربية تنطلق مسرعة لتحرق الأعداء)
فالفنّ كان دائماً يحمل على التّعويض النّفسي . فالطفل برسمه هذا ، امتلك تعويضاً نفسياً ذاتياً.. فانتقم لأسرته و لو في ظلال الوهم و الخيال . عموماً يبقى هذا النص من تحف الكاتب المتميزة ، التي تنبثق متكاملة ، مزاوجة بين هوايتيه : القصّ و الرّســـم .
*************

(6)  الضحايــــا*

خرجوا يلعبون ببنادق من بلاستيك،...
تفرقوا، و كلّ واحد اختار له مكمنا..رآهم أسامة و هو عائد إلى البيت يحملون بنادق، فقرّر أن يطلب من أمّه شراء بندقية له..
فجأة، أحس بفوهة بندقية تسلط على رأسه من الخلف، وحاملها يهدده بإطلاق النّار، ثمّ يأمره ألا يلتفت، يركع ويشبك يديه خلف رأسه كرهينة، استهوته اللّعبة فاستجاب مبتسماً لأوامر الطفل صاحب البندقية..
دوت طلقة نار فخر صريعا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
*إلى هيفاء بيطار التي ألهمتني مقالتُها هذا النص
و نـِعـم الإلهـــام !!
نص قصصي تجمعت فيه كلّ وجوه الاستحسان : أطفال يلعبون ببنادق بلاستيكية يراهم صديقهم أسامة ، فيقرر أن يطلب من أمّه شراء بندقية . فجأة شعـر بفوهة بندقيــة تصوب إلى رأسه من خلف ، ظنّه أحد أصدقائه يمازحه . و لكن الرصاصة التي فجرت رأسه الصغير ، لم تسمح له أن يعرف أنّ فواهة البندقية كانت حقيقية . و أنّ حاملها عدو حقيقيّ . و المسألة ليست لعبـــة .
 فنيــــا :
و ظف القاص الرمز : الأطفال ، البندقية البلاستيكية  : الأطفال رمز للجيل الصّاعد ، البندقية البلاستيكية و اللّعب رمز للمقاومة ... فلا حرية و لا استقلال إذا لم تتشرب الأجيال القادمة رحيق المقاومة و لو في شكل لعبة . تلك اللعبة البريئة لأطفال أبرياء ، التي  لم يستسيغها منطق العدو . فرأى في البندقية البلاستيكية بندقية حقيقية ،و في الطفل مشروع مقاوم ، فأجهز عليه ظاناً بعمله هذا، سيضع حداً لبراعم المقاومة . و أغصان العطاء ....
كما وظف في النص تسعة عشرة  فعلا معظمها تدل على الحركة، انسجاماً مع لعب الأطفال و طبيعتهم : ( خرجوا ، يلعبون ، تفرقوا ، يحملون ، يهدده ، يأمره ، يلتفت ، يركع ، يشبك ، خرّ ..)
أمّا القفلة : (ذوت طلقة نار فخرّ صريعاً...) فقد جاءت مفاجئة، و صادمة ، بعد أن أوهمنا السّياق بأنّ حامل البندقية طفل : (مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية.. ) و لكن الطلقة النارية، جعلت المتلقي يعيد النظر فيما ذهب إليه . و تلك متعة خاتمة القصة القصيرة جداً ، حين تأتي و لا تأتي كما يكون في الحسبان ، أو عكس ما يأخذنا إليه و همُ السياق . و في ذلك ـ لاشك ـ شاعرية الحكي من خلال نسق المفاجأة.
( 7 ) محاولة اغتيال

حين سقط جثة هامدة، كان إصبعُه لا يزال على الزناد، و الفوهة كما لو أنّها مسدّدة في اتجاه السّاعة المدقوقة إلى الجدار، و هي تعدّ الثّواني في حياد تام.

'' محاولة اغتيال '' بل هي اغتيال حقيقي ( والجثة هامدة ) و الإصبع لايزال على الزناد إذا هي عملية انتحار . أو عملية اغتيال مدبّرة . المهم ـ بغض النظر عن التّأويل الممكن ـ فالجريمة تمّت في الخفاء ، و فاعلها ( مجهول ) .
فنيـا : هناك تكثيف مبالغ فيه لدرجة الإبهام . فإن كنّا نصرّ على التكثيف في القصّة القصيرة جداً ، فليس ذلك معناه إلى درجة الانغلاق و الاحتباس . لأنّ الغـرض من التّكثيف،هو خلق أجواء تسمح بالتّأويل،و تعدّد القراءات بدون معاضلة،أو إشكال ما . و لكن في هـذه الومضة : نحن أمام ضغط نفسيّ. لا نعلم عوامله النفسية المؤثرة         psychodynamics  أدى إلى انتحـار ، والعلّة في ذلك أنّ الإصبع لازال على الزّناد . و الفوهة التي كأنّها مسددة في اتجاه السّاعة الجدارية رمز لإيقــاف الزّمن ( الحياة ) و لكن الذي توقف ، هي حياة الضّحية، أمّا الزّمن [ السّاعة الجدارية  ]( تعد الثّواني في حياد تام) و في استمرار رغم وقوع الجريمة . رمزاً إلى أنّ الحياة رغم كلّ الأحوال فهي مستمرة . و كأنّها غير عابئة بعملية الاغتيال ، و الأسباب النّفسية التي أدّت إلى ذلك .
و على الرغم من كلّ هذا التكثيف و الإيجاز الشديد في هذا النص؛ بمعنى أنه يفتقر إلى عدم الوضوح التقني manque d’explication  . فإنّ ما جاء به يحيل القارئ كما أوضحنا إلى الحدث و علاقته بالزمن . سواء زمن الخطاب temps de discoure
أو زمن التاريخ temps d’histoire وفي ذلك تتجلى شاعرية الحكي عن طريق التكثيف.

*****************

( 8) مــــزاج

هكذا، و دونَ سابق تفكير،حطّم مزهرتين، و صحن " طاووس"، و مزّق صورتها ركل بقدميه اللاشيء، و هو يصرخ ملء حنجرته... فجأة، توقف عن الركل و الصّراخ، مرّر أصابعه في شعره، و سوّى من ياقــــــــة معطفه،أغلقَ خلفه الباب، و خرج يسير على الرصيف، و هو يغني بصوت خفيض، يداه داخل جيبيه تقبضان على الفراغ .

'' مزاج '' ق ق جداً ، تحيلنا على الحياة النّفسية psychobiographie لشخص ما . قصة نفسية كالسّابقة . و لكنّها ليست في تكثيفها و غموضها ... بل جاءت واضحة ، تعكس مزاجاً خاصاً،هو نتيجة اضطراب نفسيّ . سببه ـ لاشك ـ امرأة ، إذ مزّق صورتَها . وانعكس انفعاله في : تحطيم المزهريتين ،و صحن '' طاووس'' و ركل اللاشيء ، و هو يصرخ ملء حنجرته .
و يظهر مزاجه المختلف . في أنّه فجأة توقف عن العنف، و مرّر أصابعه في شعره و سوى من ياقة معطفه ، و خرج يغني بصوت منخفض . و يداه في جيبيه الفارغين .
فنيــا : القصّة النّفسية من أصعب أنواع القصّة . فما بالك بالقصة القصيرة جداً .
لقد حاول القاص أن يقرب المتلقي من مزاج البطل من خلال التّركيز على أفعال العنـف : ( التّحطيم ، التّمزيق ، الرّكل ، الصّراخ ) ، و أفعال الهدوء و الاطمئنان : ( ، مرر ،سوى أغلق خرج 'يغني ' ) و كذلك يكون المزاجيّ المضطرب بين حالتيـــن( عنف / هدوء ) أو العكس.و نفسيًا لا يتّضح عامل المزاج إلا مع استفزاز ما . الشيء الذي يجعل المزاجيّ يدخل دائرة التناقض . و في النّص : خلاف ما ، مع امرأة . و عدم امتلاك البطل المزاجيّ مالا ، يمكّنه من حلّ مشاكله الراهنة . الشيء الذي ضاعف من معاناته و قلقه ... و هذا ما يتّضح في القفلـة ( يداه داخل جيبه تقبضان على الفراغ)
و لكن هل استطاع النّص أن يذهب أبعد من الحالـة المزاجية، و تصويرها باقتضاب ؟
ذاك هو السؤال.
فالنّص بعملية الوصف ، و التّصوير النفسي ، يمكّن من استخلاص الرؤى الذّهنـيّة Mentalisme ، فتتجلى من خلاله : خلجات النّفس و أسرارها ، و تجلياتها و خفياها ، و أبعادها و أغوارها.. و ليس أجمل في القصىة أن يترك القاص مجالا حيوياً للمتلقي . كي  يشاركه كتابة النّص،  بطريقة أخرى ، قد تكون الأثيرة عند المتلقي ،و في ذلك ملمح آخر لشعرية الحكي ...
*************

نخلص بعد هذا إلى نتائج استقيناها من الكتابة القصصية للقاص عبد الحميد الغرباوي ليس فقط من النماذج التي اطلعنا عليها الأن، و لكن في كلّ مؤلفاته القصصية.. كمجموعة : "عن تلك الليلة أحكي "، و" برج المرايا " ، و "نون النسوة "، و " عري الكائن "، و " أكواريوم "، و " قال لي ومضى " ، هذه الأخيرة التي تضم مائة و عشرين ق ق جداً تشكل كلّ ما كتب القاص في هذا الجنس إلى حدّ الآن ... فشعرية الحكي في قصص عبد الحميد الغرباوي أساسها :
  لغة القص و المحافظة على الإجراء التّعبيري ، و الجهاز الحكائي .
       2 ـ توظيف الرمز، في شكله اللّغوي، و التراثي دون الغلو ،أو إقحام الدّخيل .
3 ـ احترام ذكاء و فطنة المتلقي، بعدم تبسيط الرؤية.أو توظيف اللّغة المعيارية.
4 ـ الوَلهُ بتوظيف اللّغة الإيحائية ( الشّعرية ) .
5ـ العناية بالتّسلسل المنطقي ، و المنطق الاتجاهي ، و التّعدد الدّلالي .
6 ـ عدم عكس الواقع مباشرة و لكن إثارة قضياه المسكوت عنها أحياناً .
7 ـ الإهتمام بالسّرد المرسل ( المحكيات المتعدّدة ) و بخاصّة في القصّة القصيرة ,
8 ـ الاهتمام بما يثير الذّهن و التّأمل و التّخييل  كالقصص النّفسي .
9 ـ الحرص على انسجام و ملاءمة النّص و خطابه و فق هارمونية متناسقة .
10 ـ الاهتمام بالقفلة في الق ق جداً ،و بالخاتمة المفتوحة في القصّة القصيرة.

         و عموماً إنّ النصوص المطلع عليها ـ كما أسلفت ـ لا تعكس إبداع عبد الحميد الغرباوي بشكل تام . إنّما تعطي لمحة ،و ومضة عن فنّ القصّة القصيرة جداً عند هذا القاص المتميّز .و لكنّ النّصوص على اختلاف مستوياتها السّردية و الفنية ... مكّنتنا من ملاحظات قد نستفيـد منها جميعاً ؛ مبدعين و نقادا . لأنّ كتابة الكبار دائماً ـ و من خلال جدلية التّجريب و البحث عن الأحسن ـ تثيـر قضايا فنية بشكل ملحوظ . و قراءة نصوص الغرباوي ـ و بخاصّة في مجموعته الأخيرة '' أكواريوم '' و ''قال لي و مضى'' ـ تدفع القارئ إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات الفنية، التي ترسّخت في السّرديات كقيم فنية . لأنّ القاصّ عبد الحميد الغرباوي يؤمن بأننا نملك فائضاً في الكمية ، و لكن نعاني نقصاً في النّوعية لهذا فهو مهموم بالبحث والتقصّي في إطار شعرية الحكي ، و استكناه المجهول ، من خلال التّجريــب.و استقصاء المتعة الفنية ، من خلال التّنوع . و استلهام الواقع من خلال نبض الحيــاة
                                                                                 د مسلك ميمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق