الأحد، 5 فبراير 2012

شِعرية قُفلة القصّة القصيرة جداً عند حسن البقالي

بسم الله
السلام عليكم


شِعرية قُفلة القصّة القصيرة جداً عند حسن البقالي

د مسلك ميمون

       من بين الكتابات القصصية المغربية ، تميّزت كتابة القاص حسن البقالي  بعّدة خصائص نستقيها من مجموعتيه السّابقتين:'' الرقص تحت المطر'' و'' مثل فيل يبدو عن بعد '' و تشكل ضربا من الشعرية الراقية التي ترتكز على جملة من المقومات الفنية التي يتشابك و يتضافر في نسجها : الإنزياح و الحذفو الإضمار بشكل سلس ، و التقديم و التأخير بنسق فني ، و يتماهى الإبلاغي في البلاغي يصورة متكاملة متجانسة، فضلا عن  التّفرد و الجمالية، و السّرد المحكم، و انسجام النّص و الخطاب من خلال علاقة المعنى بالتّراكيب، والحفاظ على الجهاز الحكائي، و تلافي الحشو المعجمي، والنّمطية ، و اللّغة المعيارية المباشرة . و اعتماد الخطاب الإيمائي، الذي أساسه الوجه الشّفري ، و السّنن اللّغوي، و الحذف و الإضمار، و نسقية التّكثيف الرّمزي و البلاغي و الإيحاء( فلاش باك) و الوحدة، و المفارقة، و الاتساق و الانسجام، و التّناص.. الذي يسمح بالنّظرية التّأويلية التّداولية المعرفية، و التي تعتبر التّخييل من مظاهر التّواصل.
     لذلك ، قراءة نص حسن البقالي  يستوجب وعياً ذاتياً/ موضوعياً بآليات الكتابة الحديثة، في فنّ القصّة القصيرة جداً. فبين المعنى في تتابعه و انقطاعه، و تداخله و انفصاله، و تشابكه و انفصامه، و توازيه و تقاطعه، وانفراده و تكراره، و وضوحه و غموضه .. و بين التّوتر الدّرامي، و الواقعية و الشّاعرية ، و الإشارة و الرّمزية ... و الرؤية و تنوعها، بين رؤيـة من خلف، و مع، و من الخارج . في نطاق  الراوي المحايد، أو الراوي ضمن نطاق الحكي .... في كلّ هذا و غيره ، يقوم التّشكّل التّخيلي، لخلق النّص القابل للتّحميل الدّلالي.
      كتابة حسن البقالي، و منذ نشر مجموعتيه السّابقتين في القصة القصيرة جداً، اتّخذت مساراً تشعبياً متنوعاً. يتجلى بوضوح للمتتبع لكتابة هذا القاص المتميّز، الذي يجمع  بين أصالة الذّات، و حرية التّعبير المسؤول، و تفعيل الوعي الذّاتي، و التّعبير المسبوك،الذي سمته الطلاقة، و المرونة، و التّخييلية.. و لم يتأت ذلك بسهولة لقاص أمضى سنوات في رحاب القصّة القصيرة، فخبرها، و سبر أغوارها.. حتّى إذا ما جاء القصّة القصيرة جداً ، جاء بخبرة في السّرد ناجعة ، و تجربة في الكتابة رائقة، ميزت إنتاجه بنسقية فنية، و متعة إبداعية، و ذاك ما تنم عنه نصوص مجموعاته القصصية، التي تشكل مضمومة اكتشاف، و آية تجديد و اختلاف.
و في سبيل الحديث عن شعرية الق ق ج عند حسن البقالي . أفضل أن أناقش شعرية القُفلة . هذا المكون الذي يعطي للنص القصصي القصير جدا حيوية و تفاعلا ، يخترق وجدان المتلقي و يهز ذرات فكره و يشده للتأمل و التساؤل.
و القفلة ، قفلات متعددة و مختلفة ، بل كل قصة تملي قفلتها الخاصة التي ، لا يفكر فيها من قبل، بل هي وليدة لحظة الإبداع.و لقد سبق أن أشرت في مقالة إلى بعض خصائص القفلة و مادام حديثنا عنها دون باقي الخصائص أقول : القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسرد ، فمنها انطلاق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...فهي ذات أهمية قصوى . حتى أنّ البعض لا يرى قصة قصيرة جداً بدون قفلة. و إن كان لي رأي مخالف. فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصـة على درجة عالية من التّكثيف، أوالرمز، أو الحذف و الإضمار .. فنسقية النّص و سياقه enonciation وتصويره البلاغي ....كلّ ذلك يجعل القفلــة استشنائية لأنّ ما سبقها ـ إن وجدت ـ غطى على دلالتها و تأثيــرها .و من خصائصها الملازمـــة التّالي :
1
ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2
ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3
ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4
ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5
ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6
ـ لا تُصنّع ،و لا تعدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلّف .
7
ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8
ـ تأتي على نسق بلاغيforme rhétorique يضفي مسحة فنية على النّص
9
ـ تتسم بطابعها الوظيفي fonctionnel .
10
ـ تتسم بالميزة الجوهرانية  essencialiste    .

هذه الخصائص المثلى تضفي على القفلة شعرية تكسب النص وهجه و تألقه الفني و هذا ما نلمسه في الق ق ج عند حسن البقالي و نستأنس بمجموعته الأخيرة ( مثل فيل يبدو عن بعد)
1) ـــ القفلة على أساس التشبيه :
 فأول نص تحت عنوان: ( قصة) تجسد القفلة عنوا ن المجموعة :( نقطة شبيهة بفيل يبدو عن بعد) قفلة بنيت على أساس التشبيه .فكل ممارس لهذا الفن الجميل ، لا يملك إلا أن يعجب ذهنيا بهذه القفلة البليغة التي لم تختم النص فقط،و لكن حددت معالم هوية و عمق دلالة الق قج.إنها فعلا نقطة صغيرة إذا قورنت بحجم القصة القصيرة أو القصة أو الرواية ، و لكنها قياسا لحجمه كبيرة ضخمة في كبر وضخامة الفيل. و كما أنّ الفيل عن بعد ليس إلا نقطة سوداء، فكذلك الق قج للذي يستسهلها لضآلتها و قلة جملها و كلماتها، فهي مجرد نقطة و لكن للذي يعيها و يسبر أغوارها فإنّها أكبر و أضخم مما  يُتصور لما تحدثه من رجّة وعي، و إضاءة فكر، و نظرة تأمل ،و رغبة تساؤل .. 
2 ) القفلة الشذرية أو المتشظية : و هي قفلة لا تأتي في جملة مركزة كما هو المعتاد ، بل تتشظى إلى جمل تشكل مركبات أو كويكبات تدور في فلك واحد و لكن تعمق الوعي بما تحمله من دلالات و معاني  كالذي نجده في نص ( كما يصنع لصوص الخراف) القاص في حيرة من أمره أي النصوص يقرؤها إذا في المهرجان القصصي تتسابق إليه العناوين  فلا يستطيع الحسم في اختياره ، و لكن في الأخير يقرر : (أدعو إلى رفقتي الجديرات فقط :) ص 12 و تأتي القفلة الشذرية المتشظية:( أولئك الملتحفات بالأرق ، يحرسن أحلام الأخريات ، و يجدفن بعيداً في الملكوت ) ص12 إذأً ميزة الاختيار تحددت في الإضمار، و الحلم ( التخييل ) و العمق. و لعمري تلك مناط الشعرية في القصة. و يتكرر هذا النوع من القفلة في قصة لقاء ص 20

3) القفلة الرمزية ، و هي الأحسن و الأجود في كل أنواع القفلة ، لأنها لا تعلن نهاية النص بل تشكل بدايته الجديدة في البحث عن خباياه و كشف أسراره و مزياه. الرمز كان و سيبقى السباحة في العمق و التماس درر الأعماق، إيمانا من المبدع بعجز العقل عن فهم و إدراك القضايا النفسية،و الوصول إلى حقائقها الشائكة المتداخلة المعقدة. و من تمّ كان هذا الاهتمام الفني  بالقفلة الرمزية ففي المجموعة نجد نص: (تنبيه) و هو نص قصير في ست جمل فعلية و لكن جملته السادسة هي عبارة عن قفلة رمزية ( حصن نفسك ضد سم الفئران ) و لا علاقة اللقفلة بالفئران الحقيقية ،و لا بالسم الحقيقي . و المراد بالسم هنا ما يمكن أن تفعله فأرة الحاسوب من حذف ، و نقل إلى سلة المهملات و تتكرر القفلة الرمزية في نص ( كما قالت شهرزاد ). أخذ الإبرة من مربضها.و القفلة الرمزية  هي ( و بتركيز شديد جعل يخط بها على المؤق تفاصيل الحكاية ) رمز للمعاناة و الألم التي تمازج الحكي  الحزين .
4) قفلة المحاكاة :و هي نادرة ، و لكنها موجودة لطالما يعجب القاص بقولة ما فيأتي بها أو ما يحاكيها في الدلالة. و ندرتها تعود لرغبة القاص حسن البقالي بخاصة و معظم القصاصين الأخرين في تتبع مسار الحداثة دون تقليدها . لأن تقليد الحداثة هو السقوط في التقليد. و كلما أصبحت الحداثة تقليدا . إلا و ابتعدت عن روح التجديد و الابتكار.
و قفلة المحاكاة نجدها في قصة ( كوجيتو) و لكن بصورة عكسية فإذا كان ديكارت قد قال قديما : ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) فربط الوجود بالتفكير . فإن قصة كوجيتو تأتي بقفلة كالتالي : ( أنا أتخيل إذن أنا غير موجود)  
5) القفلة المفاجئة : تكاد تكون المفاجأة سمة عامة . بحكم أن القفلة شيء غير متوقع و لا وارد في ذهن القارئ . على عكس ما هو في القصة القصيرة مثلا ، فنحن نقرأ القصة و أحداثها و نستطيع التنبؤ  بما يألو إليه الوضع، في معظم الأحيان . بيد أنه في القصة القصيرة جدا فغالبا ما يغيب هذا الاحتمال ، و تضيع كل الاحتمالات الممكنة أمام مفاجأة القفلة . و أحلى و أجمل ما في القصة تلك المفاجأة غير المنتظرة ..و كأنّ كلّ ما قيل قيلها كان توهيماً و مغالطة و هذا يتجلى في نص : كاتب تجريبي إذ جاءت القفلة معبرة عن رغبة و مفاجأة(شعر بميل مفاجئ إلى إنشطاين ورغبة في الكتابة عن النسبية) و كذلك الأمر في نص فسيولوجيا ...
6) القفلة جملة في صدر النص. و هذا يحدث كثيرا و نجد في هذه المجموعة نصوصا من هذا القبيل ، تكون فيها القفلة عبارة عن جملة في البدية ، فتأتي القفلة بشكل مطابق أو جزئي لتكرر الجملة كما هو الشأن في نص( الأخ الأكبر) : جاء في صدر النص ( في جزيرة نائية..نائية جداً و مغمورة بالنسيان ) نفس هذا الكلام يتكرر في القفلة : (كان خبراء البانتجون يعدون لتجربة نووية في جزيرة نائية..نائية جداً و مغمورة بالنسيان )
و كذلك في نص (حقول الممكن) و رد في صدر النص : (و أنا خارج من داري الآن ، يمكن أن أصادف: ) و في القفلة تتكرر العبارة:( و أنا خرج من داري الآن ، يمكن أن يصادفني أحد، وضعني ، قبل أن يخرج ضمن احتمالاته الأسوء.) و كذلك في نص ( لا نهاية ) ففي جملة الصدر ( و بعد فترة كان الأول قد التهم ساندويتش ..) و في القفلة يكون الأول قد التهم السندوتش هكذا إلى ما لا نهاية..) و قد تتكرر القفلة ذاتها للتأكيد دون جملة سابقة في الصدر مثلما هو في نص(رهــاب):( أبعدوا اليوتوب..أبـعدوا اليوتوب)
7) القفلـــة المجازية الاستعارية ، و هي من أجمل أنواع القفل . لأنها جامعة لعنصر المفاجأة و فنية الأداء ، و بعد الدلالة ، و ككل جميل متميز فهي نادرة كالتي نجدها في نص( هذا المساء): ( تفطن أنذاك إلى أن بي جلطة في الروح .. و تطلق على ما تبقىمني رصاصة الرحمة .. ! )
8) القفلة النتيجة و الاستنتاج : و هي قفلة من ترسبات القصة القصيرة الكلاسيكية التي كانت تحفل بالنتيجة و الحل بعد عقدة صعبة ترهق القاص و الأبطال و المتلقي جميعاً و يصبح الكل يتطلع إلى الحل الناجع ، و كثيرا ما تبقى هذه الهواجس مسيطرة على القاص حتى إذا ما جاء إلى القصة القصيرة جدا عمد عن غير قصد إلى قفلة مريحة تكون نتيجة كل الكلام السابق. و هذا ما نجده في قصة التوحيدي مثلا (انتبهنا إلى أننا غرباء عن بعضنا ..و كل ما نصنعه أننا نداري الغربة بالصخب.) و يتكرر ذلك في نص ( ربما)
9) القفلة الإخبارية : و فيها يعمد القاص إلى أسلوب الإخبار.و هي رغم إضاءتها لما سبقها من تعتيم الرمز و التكثيف.. تسقط دائما في التقريرية و المباشرة الشيء الذي ينعكس على النص و قد وردت في المجموعة في نص لا نهاية ، و ذلك في قول السارد: (هكذا إلى ما لا نهاية) كما وردت في نص الفنان ، في قول السارد:( داهمته الشيخوخة دفعة واحدة .. و أزفت ساعة الرحيل) و جاءت أيضاً في نص ربما، في قول السارد( هذا ما استنتجته على الأقل من نظراته التي تتوعدني بالجحيم )
       من خلال هذا التّنوع في القُفلة :من التشبيه و التّشظي ، و الرّمزية و المحاكاة و المفاجأة و جملة الصدر،و المجاز و الاستعارة ، و النتيجة و الاستنتاج و الإخبار .. في هذا التشكل الفني تتحدد معالم الق ق ج عند القاص حسن البقالي،الذي هو مهموم دائماً بالبحث عن الجديد ، في إطار من التّجريب الواعي،الذي حنّكته و دعمته ممارسات سابقة في إطار القصة القصيرة .

د مسلك ميمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق