السبت، 4 فبراير 2012

التكثيف في القصة القصيرة جداً





بسم الله
السلام عليكم


التَّكثيـــف في القصَّة القصيرة



جـــدّاً


د مسلك ميمون





مسألة ( التّكثيف ) في القصة القصيرة جداً . لا تستحق نقاشاً مستفيضاً . لأنّ التّكثيف أصبح ميزة هذا النّوع الأدبي السّردي .
و الذي أرغب فيه أن ينصب النّقاش على كيفية التّكثيف لا عن وجوده، أو عدم وجوده في القصّة عموماً ، و القصّة القصيرة جداً بخاصّة .
إنّ الخلط كبير لدى المبدعين في هذه المسألة . بل هناك من لا يرغب قطعاً في مسألة التّكثيف ،عزوفاً و هروباً من تبعاتها ،و ما تتطلبه من دراية؛ و مشقّة؛ و تقنيات ؛ و تجربة ....



كيف يكون التّكثيف اللّغوي و ما دوره ؟
إنّ الفنية الإبداعية الأدبية، سواء في السّرديات أو في الشّعر.. لا تتأتى إلا بالنّسق المناسب .
في القصّة لا بدّ من اللّغة القصصية . و في الشّعر لا بدّ من اللّغة الشّعرية . وهذا يعني ، ألا محلّ للغة العادية natural langage الإخبارية التّقريرية الخطابية المباشرة ...
إذاً ، نحن أمام لغة مختلفة ، ذات خصوصية ، قد تصبح قيمتها في نفسها لأنّها فنية . على عكس اللّغة العادية ، التي قيمتها فيما تحمله من أخبار .
و لكي تكون اللّغة فنية ( قصصية أو شعرية ) ينبغي للمبدع الإلمام قدرالإمكان ( بكمياء) اللّغة : قواعد النّحو، و الصّرف و ضروب البلاغة . و ( فزياء) اللّغة : علم المعني أو الدّلالة sémantique و الأسلوبية stylistique و علم العلامات semiologie فضلا عن علم اللّغة science du langage وعلم السردRomanesque و تضاف إلى كلّ هذا الخبرة الشّخصية التي يكتسبها المبدع من خلال مطالعاته الخاصّة لإبداعات الآخرين .

فإذا كانت اللّغة الفنّية المكثفة تتطلب هذا و غيره . فإنّ الكثير لا يعبأ بها . و ينطلق في كتابته انطلاقاً من موهبة في حاجة إلى صقل ، و من تقليد و محاكاة في حاجة إلى توجيه و ترشيد . فتأتي الكتابة إمّا مفكّكة ،منحلة ،تعرض حمولتها عرضاً و ينتهي دورها . و إمّا تأتي طلاسم معقّدة ، أو أحجية وألغاز منغلقة .... فلا تواصل بين المرسل و المرسل إليه . و يفتح المجال للنقد الإسقاطي،و النّقد الإنطباعي الاعتباطي ،و التّعليقات اللامسؤولة كما هو عندنا في (المواقع الالكترونية) وكلّ يأوّل ما شاء، كيفما شاء . و لا أحد يستنطق النّص . أو يفتح مغالقه ... و هذا ليس في النّقد ،أو الإبداع في شيء .
فالمراد بالكثافة اللّغوية : إيجاز غير مخل ، الذي يوحي بالرّؤى الممكنة ، التي قد لا يأتي بها الإطناب الممل .
و التّكثيف ـ بالتّالي ـ ليس هو التّعجيز، أو الإبهام، أو الألغاز ... فذاك كلّه لا يأتي به غير مبتدئ في الفن ، أو مشوش الذّهن ، أو فاشل في عمله ...
و مسألة التّكثيف ليست جديدة في أدبنا العربي فمن يعود إلى كتاب : (المستطرف في كلّ فنّ مستظرف ) للأبشهي، سيجد عجباً .و من يعود إلى مجموعة جبران خليل جبران : ( المجنون ) التي ظهرت منذ ثمانين سنة سيكتشف أنّ مسألة التّكثيف واردة في أدبنا المعاصر . لنتأمل هذه القصّة القصيرة جداً لجبران ، و لنركزعلى العامل اللّغوي و الأسلوبي :

"خرج الثّعلب من مأواه عند شروق الشّمس، فتطلع إلى ظلّه مُنذهلاً، وقال: سأتغذى اليوم جملاً، ثمّ مضى في سبيله يفتش عن الجمل الصّباح كلّه، وعند الظّهيرة تفرَّس في ظلّه ثانية، وقال مُندهشاً: بلى.. إنّ فأرة واحدة تكفيني.."

إذاً بإيجاز غير مخل ، و تكثيف بليغ ،و صلت الرسالة ، و أغنت عن نص قد يطول ويستغرق صفحات . و قد لا يترك أثراً كما تركه هذا النّص المقتضب الفنّي . وقديماً قالت العرب : " ما قلّ و دلّ " و قالت أيضاً :" أوجز و أوفى " و عند الإنجليز :        
"
Brevity is the soul of wit"
و إنّ التّكثيف عند المبتدئين غير الواعين به و غير المتمكنين أساساً ، ليذكرني بالمذهب الانغلاقي ،الذي يذهب إليه بعض كسالى الفن و المتنطعين و راء الشهرة و بأي ثمن، كالذي نجده عند فنان تشكيلي :

"يحكى أنّ رجلا ذهب رفقة زوجته إلى معرض لوحات تشكيلية . فطافا على اللّوحات، و لم يفهما شيئاً . كلّ ما هناك لوحات فيها خطوط هندسية، و منحنيات و منعرجات بألوان مختلفة . فقررا أن يسألا الفنّان عن لوحة تحمل عنوان : وجه من الطّبيعة . وكلّ ما أمامهما لوحة فيها ثلاثة خطوط أفقية : خطّ أرجواني ، في أسفله خطّ أزرق ، و خطّ أخضر تتوسطه نقطة سوداء في أسفل اللّوحة فقط .
فقال الفنّان التّشكيلي موضحاً : الخطّ الأرجواني عبارة عن الأفق المتوهج ، و الخطّ الأزرق البعد الفضائي ألا متناهي ...
فاندفعت السّيدة تسأل في لهفة : و الخطّ الأخضر ؟
فقال الفنان مبتهجاً : الخطّ الأخضر عبارة عن مروج خضراء مترامية الأطراف .
فقال الزّوج حائراً : و النّقطة السّوداء وسط الخط الأخضر ؟؟؟
فقال الفنان ببساطة : إنّها بقرة تأكل العشب ".


هذا ما يسبب عقم التّواصل . و يدعو إلى النّفور من الفن . و هو ما هو عليه ،تكثيف بدون جدوى ، و لا يأتيه إلا مَن هو فاشل في خَلق لغة فنية ،معبرة تواصلية ...
و أمّا دور اللّغة المكثفة.فهو دور فنّي أساساً.لأنّها تفرز نصاً قابلا لقراءات متعددة . و يساعد على فتح نوافذ مختلفة ،من أجل تأويلات و رؤى وأبعاد قد لا تخامر المبدع نفسه .
و لقد لاحظت هذا مراراً،في انتاج  بعض مبدعينا في ( في مطبوعاتهم الإلكترونية ) يتساءلون باندهاش و غبطة : ترى كيف أنّ قصة قصيرة جداً ،من ثلاثة أسطر .. جاءت بكلّ هذه التّعليقات و الآراء المختلفة،وأحياناّ المتضاربة والمتداخلة...؟؟
و لكن ينسى المبدع أنّه في عملية الإ بداع، قد سلك بقصّته المسلكَ الفنّي المرغوب و المطلوب ... ألا و هو الكتابة المكثّفة لغوياً .. إنّما ما يمكن الحرص على ذكره .
أنّ عملية التّكثيف ، ليست بالعملية السّهلة و الهينة،و بخاصّة ، بالنسبة للمبتدئين ،أو الذين لم يوتوا حظاً وافياً و و فيراً، من اللّغة وأساليبها،و طرائق كتابتها،و توظيفها،و ضروب بلاغتها ، و حُسن التّصرف فيها ....

د مسلك ميمون


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق